ماريوس وسولا، الحرب الأهلية




لعل أسو نتيجة للحرب الطبقية Social War في الدولة الرومانية قد تجلت في خلق روح عداوة مريرة بين مواطني روما ذاتها، وفي قيام منافسات شخصية سرعان ما قدر لها أن تثمر أسوا النتائج.



سبب غيرة ماريوس من سولا
أحد عملات سولا - بوخوس يقدم يوغرطة هدية لسولا


إن القائدين الكبيرين، ماريوس وسولا Marius and Sulla، كانا يقفان أحدهما من الآخر موقف المناوأة منذ عهد بعيد، لا لأسباب سياسية فحسب، ولكن لمطامع ذاتية كذلك. ولم يكن ثمة شك في غيرة ماريوس من سولا -منذ حركته مع يوغرطة- ومن ناحية أخرى، كان طموح سولا دافعا لزعزعة مركز ماريوس لدى الشعب.

وقد بدت المنافسة الآن ترجح كفة سولا، الذي امتاز إلى جانب عبقرية تضاهي عبقرية غريمة وذخيرة أوفر من العزيمة والسجايا، بأنه كان أصغر منه سنا، ثم كانت عوامل أخرى ضاعفت من التمايز بين الرجلين. فقد كان ماريوس متواضع المنبت، في حين أن سولا، وان كان فقيرا، فقد كان ينتمي إلى أسرة من النبلاء.

كان أصغر الرجلين يجمع في أهابه بين الانغماس في الشهوات وبين العلم. أما أكبرهما فكان بحكم ما انعقد له من انتصارات باهرة في ميدان القتال، مطبوعا على الجفوة والصرامة في حياته الخاصة. وكان سولا مناط النفوذ من الكثيرين، ولكن عناصر القوة التي اجتمعت له ألزمت الناس احترامه، وكانت طبقة النبلاء Patricians مسرورة بقبوله نصيرا لها، مدافعا عن مصالحها. وعلى النقيض من ذلك، كان ماريوس لا يزال زعيم الحزب الشعبي، حزب العامّة (الغاشي) Plebeians المؤلف من أبناء الأقاليم ومن أبناء روما المشايعين لهم. 


أصدق تمثال لسولا، قنصل الجمهورية الرومانية
سولا، من متحف ميونيخ


 سولا قنصلا

ولم يلبث سولا، اعترافا بما كان له من خدمات في وضع حد للحرب الطبقية، أن تم انتخابه قنصلا Consul لعام 88 قبل الميلاد. ولم يمض وقت طويل حتى جاءت مناسبة اقتضت الانتفاع بخدماته في المجال الحربي. ذلك أن متريداتيس Mithridates ملك بونطس Pontus بدا واضحا انه يعد العدة لمحاربة روما، وبات من الضروري اختيار قائد توافرت له عبقرية معترف بها لمواجهة ذلك العاهل المولع بالحرب. 

وقد جرى العرف في مثل هذه الظروف على أن يعهد بالقيادة العامة إلى القنصل الأول، وكان من المحقق أن سولا لم يكن له منافس سوى ماريوس. وكان الأخير قد نحى نفسه عن هذا المنصب بانسحابه اختيارا من الميدان أثناء الحرب الطبقية. ومع ذلك فانه كان أبعد ما يكون عن الميل إلى عما يعده حقا له. وهكذا عاد إلى روما، أما مواطنو روما فكانوا في أكثرهم موالين لسولا، ولكن الايطاليين من أبناء الأقاليم تذكروا أن ماريوس كان في سنيه الماضية صديقهم ونصيرهم، وهكذا منحوه تأييدهم. 

ثم جاءت ظروف كانت مواتية لترشيحه لمنصب القيادة العامة ضد متريداتيس. فقد وفق إلى عقد تحالف مع سولبسيوس Sulpicius عضو التربيون Tribune (المدافع عن حقوق العامة) لعام 88 ق.م والذي كان منهمكا وقتئذ في السعي إلى تعديل قانون يسمح للمواطنين الايطاليين الجدد بأن يوضعوا على قدم المساواة في الحقوق مع مواطني روما الأقدم منهم عهدا.


مجلس الشيوخ في نقاشاته

كان من شأن هذا التعديل أن يزيد من أنصار ماريوس، ويعزز مطامعه في القيادة التي يسعى إليها.

على أن هذا التعديل لم يلبث أن أسخط أهل روما. وفي هذه الفترة كان تقلد سولا لمنصب القنصل على زميله روفيوس Rufus قريب العهد. ولما توقع الاثنان أن يحدث انفجار رهيب يوم الاقتراع على القانون الجديد، فقد أمرا بإقامة حفل ديني كبير تتوقف فيه كافة الأعمال العامة اذا اقتضى الأمر.

وهنا صمم سولبسيوس أن يتم الاقتراع بالرغم من القرار القنصلي القاضي بعكس ذلك. وأعقب ذلك وقوع فتنة. فإن ابن روفيوس الذي كان زوجا لاحدى بنات سولا لقي حتفه في أعمال الشغب. وتمكن القنصلان من الهرب بمشقة واضطر سولا نفسه أن يعلن انتهاء الحفل الديني. وعندئذ تمت إجازة القانون المقترح دون معارضة، ولم يلبث ماريوس بوصفه نائب القنصل Proconsul أن ظفر على الأثر بالقيادة العسكرية التي كان يتوق إليها.

وفي خلال ذلك، غادر سولا مدينة روما، والتجأ إلى معسكر للخارجين عن سلطة الجمهورية، حيث أخذ يؤلب المنشقين، وفي النهاية قرر الزحف على روما. ولم يمض وقت طويل انضم روفيوس على زميله القنصل الأول (سولا)، ومنذ ذلك الحين أخذت الأمور تتم باسميهما مقترنين. كان الموقف وقتئذ غريبا يصعب تحديده. فإن ماريوس أسندت إليه القيادة ضد متريداتيس، وكان مستحوذا على السلطة الفعلية في روما، أين كان سولا، مدفوعا بمآربه الشخصية، يقود جيشا لمحاربته. ومع ذلك لم يكن من الممكن نسيان الحقيقة، وهي أن سولا كان في هذا الوقت بالذات أرفع صاحب منصب تنفيذي في الدولة. وبهذه الصفة تهيأت له السلطة الشرعية التي كان على ماريوس احترامها.

ولم يلبث سولا أو واصل زحفه نحو روما دون أية مقاومة، وعندما أصبح على بعد 10 كلم من المدينة، قابله وفد من قبل ماريوس يرجوه التوقف إلى أن يتيسر لمجلس الشيوخ Senate اتخاذ قرار فيما ينبغي أن يكون.

الحرب الأهلية الأولى بين ماريوس وسولا

الحرب الأهلية الأولى بين ماريوس وسولا

 قد وعد سولا بالنزول على هذا الرأي، بيد أته ما لبث بعد فترة قصيرة أن واصل الزحف منتهكا وعده، وتوغل إلى داخل العاصمة برغم معارضة الشعب. وعند وصول الجيش على ساحة السوق، واجهته ثلة من الجنود النظاميين، فدار قتال طويل، ظلت نتيجته غير محسومة لبعض الوقت. بيد أنه عندما دخلت المدينة فرقة سولا الاحتياطية، وجد ماريوس نفسه هدفا للهجوم من جناحين، وفي موقفه الموئس هذا وعد بتحرير كافة العبيد الذين يقاتلون في صفه. والواقع أن هذا التصرف أثار سخط جماعته، ولم يجد ماريوس، بعد أن تخلى عنه قسم كبير من جيشه، الا أن يلوذ بالفرار مع سولبسيوس وآخرين.

وهكذا أصبح سولا الآن السيد المطلق في روما. وقد برر مسلكه في خطاب ألقاه في الناس، وعندئذ أصدر مجلس الشيوخ مرسوما يدمغ بالخيانة كلا من ماريوس ذاته وسولبسيوس عضو التربيون وعشرة آخرين. وقد صدر الحكم بإعدامهم جميعا كأعداء للشعب، وعهد إلى الضباط بتعقبهم واعتقالهم. وقد عثر على سولبسيوس في فيللا قرب لورانتوم، فلقي مصرعه قتلا، وحدد ثمن لمن يجيء برأس ماريوس، الذي استهدف لسلسلة من المغامرات، صورها المؤرخ بلوتارك Plutarch تصويرا أخاذا.

ذلك الرجل الكهل ماريوس، ما كاد يغادر روما حتى انسحب إلى مزرعته، وأرسل ابنه ليأتي بالمئونة من قريب له في المنطقة. ولم يطل به الوقت حتى غير خططه بدافع الخوف من المباغتة، فارتحل إلى ميناء أوستيا Ostia، حيث كان لديه من الأسباب ما جعله يعتقد أن سفينة ستكون هنالك في انتظاره.


Marius medite sur les ruines de Carthage

ماريوس مستغرقا في تأمله، بين أطلال قرطاجة

سافر ماريوس على المنفى، وما لبث أن عاد واصطدم مرة أخرى بسولا، في حرب اهلية ثانية، وعاد ورحل إلى أفريقيا عسى أن يجد حليفا ينصره. ولما طلب منه مندوب حاكم قرطاجة أن يعود أدراجه، قال له ماريوس: "عد إلى الحاكم واخبره أنك التقيت بماريوس الهارب جالسا وسط أطلال قرطاجة".


 .